تداخل الأجناس الأدبية في كتابات جبران خليل جبران - الناشر المصري

تداخل الأجناس الأدبية في كتابات جبران خليل جبران - الناشر المصري

بقلمي - ربا رباعي - الاردن

 

يُعد جبران خليل جبران من أهم رموز النهضة الأدبية العربية، وأحد أبرز ممثلي الأدب المهجري في القرن العشرين. تميزت كتاباته بخصوصيتها الأسلوبية وعمقها الفلسفي والروحي، لكنه لم يكن كاتبًا تقليديًا ملتزمًا بالأطر الأدبية السائدة. فقد كسر جبران الحواجز بين الأجناس الأدبية، وابتكر نصًا هجينًا يتجاوز التصنيفات الصارمة، ليُعبّر عن رؤاه الوجودية والإنسانية بلغة تتأرجح بين الشعر والنثر، وبين الحكمة والقص، وبين التصوف والتأمل الفلسفي.


إنّ تداخل الأجناس الأدبية في أعمال جبران ليس مجرد سمة شكلية، بل يعكس موقفًا فنيًا وفكريًا عميقًا، يقوم على تحرير النص من الحدود الجامدة، وفتح فضاء التعبير أمام تفاعل الأشكال والأنواع. في كتابه الأشهر "النبي"، تتجلى هذه السمة بوضوح، إذ تتخذ الفصول شكلًا من الخطاب النثري المشبع بالإيقاع الشعري، والمحمل بالحكمة الصوفية والتأملات الفلسفية. يتحدث "المصطفى" إلى أهل المدينة قبل رحيله، في سلسلة من الخطب التي تأخذ طابع الحكمة والوصايا، كما في قوله:

"أولادكم ليسوا أولادًا لكم، إنهم أبناء وبنات الحياة المشتاقة إلى نفسها."

وهذا القول ليس مجرد نص نثري، بل هو تعبير شعري رمزي يحمل في طياته بُعدًا وجوديًا ورؤية كونية للعلاقة بين الإنسان والحياة.


أما في ديوانه الشعري "المواكب", فقد اختار جبران الشعر العمودي لكنه حمّله مضمونًا فلسفيًا عميقًا، يعبر فيه عن صراعه مع الزيف الاجتماعي والديني، ويصوغ أفكاره بلغة شعرية تأملية تتقاطع مع نثره الروحي. يقول:

"ويلٌ للأمةِ التي تلبسُ مما لا تنسج، وتأكلُ مما لا تزرع، وتشربُ مما لا تعصر."

هذا المقطع يُبرز امتزاج الخطاب الشعري بالخطبة الأخلاقية، في صيغة احتجاجية جمالية تجمع بين الفن والفكر.


وفي كتابه "يسوع ابن الإنسان", استخدم جبران أسلوبًا سرديًا دراميًا متعدّد الأصوات، حيث قدّم مجموعة من الشخصيات تتحدث عن المسيح من وجهات نظر مختلفة، وهو ما يجعل النص يتقاطع مع عناصر المسرح، والسيرة الذاتية، والتأمل الروحي. هذا المزج يعكس رؤية جبران للمسيح كرمز كوني، لا كشخصية دينية تقليدية، ويكشف أيضًا عن قدرته على استخدام الأجناس الأدبية المختلفة لتجسيد أفكاره الوجودية الكبرى.


ولعل هذا الميل إلى تداخل الأجناس ينبع من فلسفة جبران العميقة، التي ترى أن الحقيقة لا تُقال بلغة واحدة، وأن التعبير الفني ينبغي أن يكون حرًّا، متجاوزًا القيود الشكلية. في "رمل وزبد"، يقول جبران:

"إن اللغة ما هي إلا ضوء في نافذة... قد أراه أنا شعاع شمس، وقد تراه أنت شعلة نار، وقد يراه غيرنا شيء آخر. ولكن النافذة ليست الشمس، وليست النار، وليست الضوء."

هذا الاقتباس يلخّص نظرته إلى اللغة بوصفها أداة ناقصة، لا تعبّر عن الحقيقة الكاملة، مما يدفعه إلى استثمار كل الأشكال التعبيرية المتاحة، ليقترب من جوهر المعنى.


هكذا، لم يكن تداخل الأجناس الأدبية في أعمال جبران مجرد تجربة شكلية أو تجريب لغوي، بل كان ضرورة فنية تنسجم مع رؤيته الجمالية والروحية. لقد سعى جبران إلى التعبير عن الإنسان، والحب، والحرية، والمطلق، بلغة تتخطى الحدود التقليدية وتُلامس جوهر الوجود. وبأسلوبه المتفرّد، أحدث جبران ثورة ناعمة في بنية النص العربي، ومهّد الطريق أمام أجيال لاحقة لتجريب أشكال تعبيرية جديدة، أكثر تحررًا وانفتاحًا وعمقًا.

تعليقات